نشأة وتطور علم الاقتصاد 

     استخدم اليونانيون (الاغريق) كلمة الاقتصاد (Economics)، وهذه الكلمة عند "أرسطو" تعني إدارة المنزل حيث تتكون من كلمتين هما (Oikos) وتعني المنزل والكلمة الأخرى (nomos) وتعني تدبير، وبهذا يكون مصطلح الاقتصاد باللفظ اليوناني (تدبير المنزل) غير أن هذا لا يعني بان اليونانيين القدماء (الاغريق) هم الذين أسسوا علم الاقتصاد كعلم مستقل . 

    إن الأفكار الاقتصادية كانت موجودة بشكل بسيط في العصور القديمة والمتوسطة وخير مثال على ذلك الحضارتين اليونانية والرومانية وهاتين الحضارتين تعدان أول الحضارات القديمة التي عرف شيء عن فكرها الاقتصادي، وكما ذكرنا سابقاً فان "ارسطو" يعتبر أول من أوجد ما يمكن تسميته (ببذور نظرية اقتصادية) حيث قام بتحليل الظواهر والمشاكل الاقتصادية، كما يعد "ارسطو" أول شخص دفع الاقتصاد في سبيل أن يصبح علماً. كما كانت هناك جملة من الأفكار الاقتصادية في العصور الوسطى سواء في الحضارة المسيحية في أوربا أو الحضارة الإسلامية في الشرق العربي. ويجب أن نبيّن هنا بأن وجود هذه الأفكار الاقتصادية في تلك الفترات لا يعني أن هناك علم اقتصاد بالمعنى المحدد للعلم . 

    وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر بدأ ظهور علم الاقتصاد على يد الفيز وقراط (الطبيعيين)، ثم على يد التقليدين الانكليز، وقد عمل هؤلاء الاقتصاديين على تجنب الخلط. ولم يتحقق ذلك إلا بعد أن كتب Adam Smith "آدم سمث" كتابه المشهور (ثروة الأمم) عام 1776. وقد كان الفيز وقراط و"آدم سمث" يهدفون من دراساتهم إلى البحث عن طرق اغتناء الدولة، لذلك درجوا على استخدام تعبير (الاقتصاد السياسي)، ومع مرور الوقت هجر كثير من الكُتّاب تعبير (الاقتصاد السياسي) واستخدموا بدلاً منه تعبير (علم الاقتصاد) أو (الاقتصاد). وكان "الفريد مارشال" أول من أصدر مؤلفاً بعنوان (مبادئ علم الاقتصاد) عام 1890 .

     مر علم الاقتصاد بالعديد من المراحل نشأت خلالها العديد من المدارس الاقتصادية التي ناقشت هذا العلم ووضعت الآراء والأفكار والنظريات التي تعمل على توضيح آلية عمل هذا العلم المهم للإنسان والدول بصورة عامة، وللتعرف على أبرز هذه المراحل لا بد من التعرف على المدارس التي ناقشت هذا العلم. ومن أبرز هذه المدارس ما يلي: 

1 – المدرسة التجارية "المركنتيلية  Mercantilism School 1500 – 1776 

     يعتبر "وليام بتي W. Petty" من أبرز مفكري هذه المدرسة، حيث ظهرت أعقاب القرون الوسطى وحتى منتصف القرن الثامن عشر، وقد أدى ظهور عصر النهضة واكتشاف أمريكا وما أعقبه من تطور تكنولوجي في مختلف المجالات وازدياد النشاط التجاري وتدفق المعادن الثمينة، كل هذا دفع الكثيرين إلى الاعتقاد أن النشاط التجاري هو الأهم وبذلك تستطيع الدول أن تهيمن وتبسط نفوذها وسلطتها من خلال السيطرة على أكبر قدر ممكن من المعادن الثمينة والتي تعتبر أهم نتائج العملية التجارية، وكان من أهم الأفكار الاقتصادية التي جاءت بها تلك المدرسة هي: 

أ‌) أعطت أهمية للتجارة أكثر من باقي النشاطات الأخرى.

ب‌) أن قوة الدولة ومركزها يتحدد بما تملكه من معادن نفيسة كالذهب والفضة والتي يمكن الحصول عليها من خلال تحسين تجارتها مع العالم الخارجي، ومن أجل ذلك كان لا بد على الدول أن تسعى لزيادة صادراتها وتقليل استيراداتها من السلع المختلفة من أجل الحصول على فائض في ميزانها التجاري، وبهذه لطريقة يمكن للدولة أن تساعد في تراكم المعادن النفيسة. 

ت‌) الاهتمام بدور الدولة وقوتها وعدم الاهتمام بحياة الفرد. 

ث‌) الدعوة إلى حرية التجارة.

     وأخيراً يمكن القول بان هذه المدرسة عملت على تقوية نفوذ الدولة من خلال تسخير كافة الموارد الاقتصادية في سبيل خدمة الدولة فقط مما أدى إلى ظهور منطق الهيمنة والسيطرة عند الكثير من الدول وقد سميت هذه المدرسة بمذهب الاقتصاد المسخر.  

2 - المدرسة الطبيعية "الفيزوقراطية" Physiocracy School  1786 – 1871 

     ظهرت هذه المدرسة في فرنسا وكان من أهم روادها الاقتصاديون الفرنسيون، أمثال "فرانسو كيناي F. Qusnay"، وقد مثلت هذه المدرسة المذهب الحر في الاقتصاد والذي كان ظهورها نتيجة فشل سياسة المدرسة التجارية، وقد قامت هذه المدرسة بإتباع فلسفة جديدة تحث على عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وإعطاء الأفراد فرصة التملك والحرية كما واعتبرت أن المعادن الثمينة والنقود لا تعتبر أكثر من وسيلة تبادل بين الأفراد في المجتمعات الاقتصادية وأن النشاط الزراعي هو النشاط الأهم وهو النشاط المنتج الوحيد وأن الأنشطة الأخرى جميعها أنشطة غير منتجة والاستمرار فيها يحول بين المجتمع وبين التقدم. ومن أهم الأفكار التي جاءت بها هذه المدرسة هي: 

أ‌) التأكيد على أهمية الزراعة وأنها المهنة الوحيدة المنتجة، أما باقي المهن فهي في خدمة الزراعة، حيث اعتبروا أن الأرض المصدر الرئيسي للإنتاج. 

ب‌) الدعوة للحرية الاقتصادية.

ت‌) الدعوة إلى عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي.

ث‌) توفر القناعة التامة بوجود قوانين طبيعية تحكم السلوك الإنساني في مختلف مجالاته.

ج‌) استخدام أسلوب التجميع في التحليل الاقتصادي الذي تمثّل في اعتماد الجدول الاقتصادي الذي ميز فيه "كيناي" بين طبقات المجتمع الثلاث (الزراع، الصناع، والتجار).

3 – المدرسة  التقليدية "الكلاسيكية" Classical School 1786 – 1871

     من أبرز رواد هذه المدرسة "آدم سمث" و "ريكاردو" و "جون ستورات ميل" و "مارشال"، وقد تأثرت هذه المدرسة بأفكار المدرسة الطبيعية، حيث ركزت على أن النظام الطبيعي هو الذي يسيطر على الحياة الاقتصادية وأن المنفعة الشخصية للفرد هي التي تتحكم في تصرفاته وتدفعه بالتالي إلى تحقيق المنفعة العامة وينحصر ويتحدد دور الدولة في وضع الأنظمة التي يمكن أن تحكم النظام الداخلي والخارجي وإقامة العدل بين الأفراد وتقديم الخدمات المختلفة في سبيل تطور الاقتصاد، وطالب أصحاب هذه المدرسة بالحد من الضرائب وعدم التوسع فيها ونادوا بمبدأ حيادية الموازنة العامة كما طالبوا بتخفيف القيود على حركة التجارة وجعلها في حدود ضيقة.   

     تعتبر المدرسة الكلاسيكية بداية ظهور الفكر الاقتصادي المنظّم وقد رافق ظهورها قيام الثورة الصناعية والتي ترتب عليها دخول الآلة حيز الإنتاج وما ترتب على ذلك من زيادة كبيرة وهائلة في الإنتاج والاتجاه نحو التخصص وتقسيم العمل ومن زيادة في الاستخدام إلى تغير هدف الإنتاج من الاكتفاء الذاتي إلى هدف التبادل، تلك الأحداث التي رافقها بروز العديد من المشاكل الاقتصادية، سواء ما يتعلق منها بالإنتاج والاستخدام والأجور. وكان لا بد من معالجة تلك المشاكل وإيجاد الحلول الملائمة لها التي أخذت تزداد تعقيداً، هذا مما دفع العديد من المختصين والمفكرين لمعالجة تلك المشاكل، فقد ظهرت فعلاً بعض الدراسات التي تختص بمعالجة مثل تلك المشاكل، والتي منها الكتاب الذي أصدره "آدم سمث" الذي يُعتبر المؤسس الأول لعلم الاقتصاد، ذلك الكتاب خُصص بالكامل لمعالجة العديد من المسائل الاقتصادية والذي سماه (ثروة الأمم) والذي صدر عام 1776، والذي ركز فيه على كيفية أن تغتني الدول. 

     لذلك يمكن القول أن البداية الأولى لظهور الاقتصاد كعلم مثل باقي العلوم الأخرى كانت على يد الاقتصادي "آدم سمث" وذلك عام 1776، وقد استمرت آراء هذه المدرسة حتى أزمة الركود العالمي (أزمة الكساد الأعظم) التي سادت خلال الفترة (1929 – 1933)، وكان من أهم الأفكار التي جاءت بها المدرسة الكلاسيكية هي: 

أ‌) الدعوة للحرية الفردية والملكية الخاصة. 

ب‌) عدم الحاجة لتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي.

ت‌) أن المنفعة الشخصية هي الحافز الذي يدفع الفرد للقيام بنشاط اقتصادي معين.

ث‌) أعطت أهمية للتحليل الجزئي.

ج‌) أن من يسعى لتحقيق مصالحه الخاصة، فهو يحقق مصلحة عامة بصورة غير مباشرة، وهذا يعني أن ليس هناك تعارضاً بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة. 

ح‌) ركزوا على أن قوة الدولة تنبع من مقدار ما تملكه من أيدي عاملة ومقدرتها على الإنتاج وليس على ما تملكه من معادن نفيسة. 

خ‌) نادوا بفكرة اليد الخفية في تحقيق التوازن الاقتصادي من خلال ما يسمى بجهاز الثمن (العرض والطلب) دون الحاجة إلى تدخل الدولة. 

4 – المدرسة الحديثة New School

     ظهرت المدرسة الحديثة بعد فشل الأفكار التي جاءت بها المدرسة الكلاسيكية في معالجة أزمة الركود العالمي، تلك الأزمة التي كادت أن تؤدي إلى انهيار النظام الرأسمالي، لولا ظهور بعض المتحمسين، والذين حاولوا إسناده، ومنهم العالم الإنكليزي "جون مينارد كينز" John Maynard Keynes الذي يعتبر من أبرز علماء المدرسة الحديثة، والذي أحدث ثورة ضد الفكر الكلاسيكي، حيث جاء بمفاهيم وآراء مغايرة تماماً لما جاءت به المدرسة الكلاسيكية، وأهم مؤلفاته: (النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود) والذي أصدره عام 1936 ، من أهم ما تقوم عليه نظريته هي أن الدولة تستطيع من خلال سياسة الضرائب و السياسة المالية و النقدية أن تتحكم بما يسمى بالدورات الاقتصادية.

      قدمت أفكار علماء المدرسة الحديثة دفعة جديدة لمفهوم الاقتصاد الحديث والذي يبتعد في الأفكار الاقتصادية عن السياسة وبالتالي أدى ذلك تدريجياً إلى إختفاء مفهوم الاقتصاد السياسي. وكان تركيز هذه المدرسة على أن الأفراد في المجتمعات الاقتصادية المختلفة يندفعون وراء العوائد النقدية خلال النشاطات الاقتصادية التي يتم مزاولتها، ويسعون لتحقيق الإشباع الأكبر لكنهم غير قادرين على قياسه بدقة.

     بالإضافة إلى ذلك فإن الأزمة الاقتصادية التي مر بها العالم في السنوات (1929 – 1933) بيّنت نقاط الضعف التي تعاني منها النظريات السابقة وفشلها في معالجة المشاكل الاقتصادية الكبرى كالتضخم والبطالة وذلك بسبب تركيز الاهتمام فقط على حل مشاكل جزئية. مما دفع العالم "كينز" إلى توجيه الانتقادات إلى المدرسة الكلاسيكية ونادى بالسياسة الاقتصادية لمعالجة الاختلالات التي تواجه الاقتصاديات المختلفة، حيث قام بتقديم إضافته العلمية والتي تكمن في ابتكار أحدث أساليب التحليل العلمي مما كان له الفضل في الربط بين الدراسات التحليلية للاقتصاد والبحث العلمي واستخدام النتائج على مستوى الدولة بشكل عام، أي أنه بذلك انتقل بالتحليل الاقتصادي من التحليل الجزئي الى التحليل الكلي بالإضافة الى إدخاله أسلوب الأبحاث الإحصائية العامة في الدراسات الاقتصادية التحليلية مما يعني الاهتمام بالقياس الكمي والذي أصبح لاحقاً الأساس في وضع الاقتصاد الرياضي، وكان من أهم الآراء التي جاء بها "كينز" هي: 

أ‌) ضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وخاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية. 

ب‌) إن التوازن في الاقتصاد لا تحكمه عوامل طبيعية، بل عوامل غير طبيعية يمكن السيطرة عليها. كما إن التوازن في الاقتصاد القومي يمكن أن يتحقق عند أي مستوى من مستويات الاستخدام وليس فقط عند مستوى الاستخدام الشامل.

ت‌) توجيه الاهتمام نحو المسائل والمشاكل الكلية كالمسائل المتعلقة بالنمو والتنمية والاستخدام والدخل وبمعالجة الظواهر الاقتصادية كالمشاكل المتعلقة بالتضخم والبطالة والركود الاقتصادي وبأهمية النقود والسياسات النقدية والمالية في النشاط الاقتصادي والاقتصاد القومي. 

     وكان من ضمن المدارس الفكرية الاقتصادية التي ظهرت في بداية القرن العشرين هي المدرسة الاشتراكية التي ظهرت أعقاب الثورة البلشفية في الاتحاد السوفيتي السابق عام 1917، والتي جاءت بأفكار جديدة كان لها تأثيرها في علم الاقتصاد، خاصة تأكيدها على الجوانب والدراسات والتحليل الكمي وإدخال الرياضيات والإحصاء في التحليل الاقتصادي. بالإضافة إلى أن الاشتراكية هي نظام اقتصادي يمتاز بالملكية الجماعية لوسائل الإنتاج والإدارة التعاونية للاقتصاد، ينادي المذهب الاشتراكي بالعدالة في توزيع الثروة، وضرورة تحجيم الملكية الخاصة مقابل تعزيز الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج. كما أنها تؤمن بمنح الدولة 

اخر منشور