الاقتصاد الجزئي والاقتصاد الكلي
تعتمد النظرية الاقتصادية المعاصرة إلى دراسة المشكلات الاقتصادية الموجودة في المجتمع على مستويين مختلفين: المستوى الأول جزئي والمستوى الثاني كلي.
• الاقتصاد الجزئي Microeconomics
يهتم بدراسة سلوك الكيانات الفردية مثل الفرد، الأسرة، المنشأة، الأسواق، فهو يهتم بدراسة كيفية إدارة الفرد (الوحدات الجزئية) لموارده المحدودة في سبيل تعظيم منافعه الذاتية. أي أنه يقوم بدراسة متغيرات جزئية مثل الطلب والعرض وسلوك المستهلك الفرد وسلوك المنتج الفرد، وكلها متغيرات تخص الفرد "الجزء" وليس المجتمع "الكل"، ويكون الاهتمام فيه مركزاً على تكوين الأسعار. فمثلاً نتحدث عن إنفاق الفرد على سلعة معينة، مستوى المنفعة التي يمكن أن يحصل عليها ضمن إمكانياته المحدودة بما يساهم بالوصول إلى أقصى درجة إشباع ممكن. ويتناول دراسة سلوك المنتج في تحديد أسعار السلع والخدمات التي يقدمها وجميع القرارات التجارية التي تساعده لتحقيق – تعظيم ربحه من موارده المحدودة -، فالتحليل الجزئي يُعنى:
بسوق سلعة معينة بما يساهم في الإجابة عن تساؤلات تختص بتحديد السعر المناسب لتلك السلعة في السوق.
بدراسة الأسواق المختلفة التي يعمل المنتج في تنسيقها وكيفية تحديد الأسعار من قبله حتى يعظم أرباحه.
بالإجابة عن تساؤلات تختص بقرارات المستهلك خاصة في مجال الكيفية التي يوزع بها دخله على مجموع السلع والخدمات بما يحقق له أعظم نفع منها جميعاً.
والمشكلة الأساسية التي يعالجها هي تحديد الأسعار والكميات بقوتي العرض والطلب، لذا فان نظريته هي نظرية الطلب ونظرية العرض ونظرية السعر في الأسواق المختلفة وهو يحاول تحديد ما الذي يجعل الفرد يشتري إحدى السلع بدلاً من الأخرى كونه مستهلكاً وما الذي يدفعه لإنتاج هذه السلعة أو تلك كونه منتجاً.
يعتبر "آدم سمث" Adam Smith هو مؤسس علم الاقتصاد الجزئي، وهو ذلك التخصص الاقتصادي الذي يُعنى اليوم بدراسة سلوك الكيانات الاقتصادية المستقلة، كالأسواق والشركات والأسر المنتجة، ففي كتابه (ثروة الأمم The Wealth of Nations) الذي نشره عام 1776 تعرض "سمث" بالدراسة لمسألة الأسعار المستقلة وكيفية تحديدها ولا سيما في حالات تسعير الأرض land والعمالة labor ورأس المالCapital . كذلك اهتم بإبراز نقاط القوة والضعف في آليات السوق Market Mechanism . والأهم من ذلك أنه قام بتحديد أبرز خصائص الأسواق التي تتمتع بالكفاءة، وكان يرى أن المنفعة الاقتصادية تتحقق كنتيجة قيام الأفراد برعاية مصالحهم الخاصة.
وعلى أساس إن الاقتصاد الجزئي يبحث في سلوك الوحدات الجزئية، أي الوحدات الصغيرة (Micro) التي تعمل في الاقتصاد، ومن خلال العلاقة التي تربط بين هذه الوحدات عند قيامها بنشاطاتها الاستهلاكية والإنتاجية تتحدد دورة النشاطات الاقتصادية، والتي يوضحها الشكل التالي:
ومن الشكل أعلاه يتبين ما يلي:
1) أن الأفراد باعتبارهم مالكين لعناصر الإنتاج يقدمون خدماتهم إلى الوحدات الإنتاجية، والتي تتمثل بخدمات العمل، رأس المال، الأرض، والتنظيم، أي حصول تدفق عيني تمثله خدمات عناصر الإنتاج هذه من الوحدات الاستهلاكية إلى الوحدات الإنتاجية.
2) أن المنتجين يقدمون المقابل لخدمات عناصر الإنتاج، والتي تمثلها أسعار (أثمان) هذه الخدمات، والتي هي الأجر كمقابل للعمل، والفائدة كمقابل لرأس المال، والريع (الإيجار) كمقابل للأرض، والربح كمقابل للتنظيم، وهذا يعني حصول تدفق نقدي من الوحدات الإنتاجية إلى الوحدات الاستهلاكية مقابل التدفق العيني هذا، أي أن التدفق النقدي يرافق ويلازم التدفق العيني.
3) أن الوحدات الإنتاجية تقوم باستخدام خدمات عناصر الإنتاج ومستلزماته للقيام بالعمليات الإنتاجية التي يتم عن طريقها إنتاج السلع والخدمات التي تمثل التدفق العيني من الوحدات الإنتاجية إلى الوحدات الاستهلاكية.
4) أن الوحدات الاستهلاكية تقدم المقابل للسلع والخدمات التي تحصل عليها، والذي يتم بإنفاق الدخول التي حصلت عليها نتيجة مساهمتها في الإنتاج، وبالأسعار التي تتحدد لهذه السلع والخدمات المنتجة، وهذا يمثل تدفق نقدي من الوحدات الاستهلاكية إلى الوحدات الإنتاجية مقابل التدفق العيني هذا، أي أن التدفق النقدي يرافق ويلازم التدفق العيني.
ومما سبق يتبيّن أن كافة النشاطات الاقتصادية والتي تبدأ بالنشاط الإنتاجي مروراً بالنشاط التوزيعي، ونشاط التبادل وانتهاء بالنشاط الاستهلاكي تتم من خلال الوحدات الاقتصادية هذه، أي أجزاء الاقتصاد، وهم الفرد والمشروع كمستهلكين ومنتجين، وهو ما يمثل دورة النشاطات الاقتصادية التي يؤدي من خلالها الاقتصاد عمله، وبالترابط بين التدفقات العينية والنقدية بين الوحدات الاستهلاكية والإنتاجية، حيث أن كل تدفق عيني ينبغي أن يتحقق معه ويرافقه تدفق نقدي، وأن التدفق العيني والنقدي لخدمات عناصر الإنتاج وأسعارها، والذي يتحقق في سوق عناصر الإنتاج، ينبغي أن يرافقه ويلازمه، ويتحقق معه تدفق عيني ونقدي للسلع والخدمات المنتجة، والذي يتحقق في سوق السلع والخدمات، وبذلك يؤدي الاقتصاد نشاطاته كافة.
وعلى أساس ما تقدم، يمكن إدراج أبرز الجوانب التي يلاحقها التحليل الجزئي وكما يلي:
1. زيادة النمو الاقتصادي: أن يكون كل من الإنتاج والاستهلاك بالكميات والنوعيات الجيدة من السلع والخدمات وبما يتناسب مع أفضل المعايير المطلوبة للعيش.
2. التوظيف الكامل: إيجاد مهن مناسبة ومتوفرة لجميع الراغبين والقادرين على العمل.
3. الكفاءة الاقتصادية: تحقيق الكفاءة من خلال الإنتاج بالحد الأعلى من الأرباح و الحد الأدنى من التكاليف.
4. استقرار الأسعار: إن الصعود المفرط أو النزول في مستوى الأسعار غير مرغوب بهما، فالأول يخلق التضخم والثاني يؤدي إلى الانكماش.
5. حرية الاقتصاد: ضرورة التمتع بالحرية الاقتصادية للمستهلكين ومدراء الأعمال التجارية وأصحاب عناصر الإنتاج في كل الممارسات الاقتصادية.
6. التوزيع العادل للدخل: ليس من المعقول أن يواجه جمهور كبير العوز والفاقة، بينما الآخرون يتمتعون بالترف، فلا بد من وجود نوع من العدالة الاجتماعية.
• الاقتصاد الكليMacroeconomics
يهتم بدراسة اقتصاديات الدول أو المجتمعات أي يهتم بدراسة المتغيرات الكلية مثل ثروة المجتمع، الدخل القومي، الاستهلاك الكلي، الاستثمار الكلي، التضخم، البطالة، الأجور ..... وكلها متغيرات تخص المجتمع أو "الكل" وليس الجزء.
وهذا يعني أن الاقتصاد الكلي معني بالأداء الشامل للاقتصاد فهو يعالج مشاكل الاقتصاد الوطني ككل ويهتم به، ويتضمن دراسة الإنتاج الكلي والاستخدام الكلي والمستوى العام للأسعار وبشكل عام يتعلق الاقتصاد الكلي بالمتغيرات الكلية وأن موضوعه الأساس هو تحديد مستوى الدخل وتغيراته. كذلك يمكن القول بأن التحليل الاقتصادي الكلي يتناول الصورة الكلية لآلية عمل الوحدات الاقتصادية كوحدة واحدة، أي على المستوى التجميعي أو القومي ككل. مثال ذلك: تتم دراسة الإنفاق الحكومي لجميع الوحدات الاقتصادية المكونة للدولة وكذلك إنتاجها الكلي، والمستوى العام للأسعار في الدولة، ومستوى البطالة، وحجم التضخم فيها ... الخ.
لذلك فإن الاقتصاد الكلي يهتم بتحليل:
أوجه الاستهلاك.
الاستثمار.
الإنفاق الحكومي.
التجارة الخارجية للدولة.
مستوى العرض والطلب الكليين والعوامل المؤثرة فيهما.
الناتج المحلي الإجمالي ومحددات التشغيل.
كل ما يتعلق بالاقتصاد القومي، مثل مستويات البطالة، والتضخم، الناتج القومي، الأسعار.
إذاً فإن الاقتصاد الكلي بشكل عام يحاول الإجابة على تساؤلات تختص بتحديد مستوى التشغيل العام والبطالة والمستوى العام للأسعار.
ومن الجدير بالذكر أنه حتى منتصف الثلاثينات من القرن السابق كان التحليل الاقتصادي بصفة رئيسية تحليلاً جزئياً باستثناء بعض جوانب النظرية النقدية وبالذات نظرية كمية النقود. أما التحليل الكلي فقد احتل مكانة هامة في النظرية الاقتصادية ودخل إلى حيز الوجود في صورته الحديثة على يد المدرسة السويدية والاقتصادي البريطاني "كينز" بعد ان نشر نظريته المشهورة بكتابه "النظرية العامة في الاستخدام والفائدة والنقود General Theory of Employment Interest and Money" عام 1935.
أما الآن فإن دراسة النظرية الاقتصادية تتضمن كلا المجالين الجزئي والكلي، وهكذا يتقارب الفرعان، الاقتصاد الجزئي والاقتصاد الكلي، ليشكلا جوهر ما يعرف بعلم الاقتصاد الحديث Modern Economics.