استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية في الفقه الإسلامي
د .عبد الرحمن عبد الرزاق عبد اللطيف
The independence of the judiciary from the executive authority in Islamic jurisprudence
Dr. Abdul Rahman Abdul Razzaq Abdul Latif
اذا كان استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية لم يعرف في الدول الغربية الا في اوائل القرن التاسع عشر فقد سبقها الاسلام به(1). إذ إن الحكم بالعدل من واجبات رئيس الدولة في الإسلام وهو مسؤول أمام الله عن رعيته ومسؤول كذلك أمام الأمة أو الشعب الذي يملك الحق في محاسبته(2). وقد كان القضاء في بداية نشوء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة على عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يتولاه النبي عليه الصلاة والسلام بنفسه بين الناس أو يعهد به إلى بعض الولاة في توليتهم أمر الولاية الإدارية والسياسية فلم يكن القضاء نظاماً مستقلاً في بادئ الأمر عن السلطة التنفيذية (3) , واستمر الحال هكذا في زمن الخليفة أبي بكر ، وبعد أن اتسعت الدولة الإسلامية في عهد الخليفة عمر استقل القضاء عن الولاة وأصبح الخليفة هو الذي يتولى القضاء أو يكون أمر توليتهم من الوالي عندما يخوله الخليفة أمر تولية القضاء . أو يوكل أمر توليتهم إلى من كان يسمى (قاضي القضاة) في زمن الدولة العباسية(4). وللاحاطة بموضوع الدراسة سوف نتطرق لة في نقطتين: -
اولاً :الاستقلال حق للقاضي وواجب عليه
ولمّا كان القضاء هو ديناً يحاسب عليه القاضي فإن من حقه أن يرفض التدخل في شؤون عمله القضائي ليتجنب سخط الله إذ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) {{ إن القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، ورجل عرف الحق فجار عنه فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار }}(5). وإن استقلال القاضي حق له ، مصدره الشرع إلاّ أن هذا الحق في جذوره هو واجب شرعي على القاضي ، ودليل كونه واجباً هو أن القاضي لا يستطيع أن يتنازل عن استقلال قضائه ، ولو كان حقاً خاصاً لاستطاع التنازل عنه مثل باقي الحقوق الشخصية ، وأن تدخل ولي الأمر في عمل القاضي معصية والقاعدة في الشريعة الإسلامية أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ممّا جاء في الحديث {السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة}(6) . نقل عن الفقيه المالكي أشهب أنه قال (من واجب القاضي أن يكون مستخفاً بالأئمة) وفسر ذلك ، أي مستخفاً بتوسطاتهم وشفاعاتهم ، وإذا لم يستطع القاضي الحفاظ على استقلاليته في الحكم وجب عليه الاسـتقالة من وظيفته(7). بل يتوجب على الشخص إذا علم أنه لا يستطيع أن يتمتع بالاسـتقلال في الحكم أن يمتنع عن قبول منصب القضاء ، فنجد لذلك مثلاً الفقيه أبا حنيفة عندما امتنع عن قبول منصب القضاء من المنصور العباسي رغم إصرار الأخير على قبوله إذ قال له أبو حنيفة: (اتق الله ، ولا تشرك في أمانتك إلاّ من يخاف الله ، والله ما أنا بمأمون الرضا ، فكيف أكون مأمون الغضب ، وأني لا أصلح لذلك ، فصاح به المنصور قائلاً : كذبت أنت تصلح ، فرد عليه أبو حنيفة قائلاً : قد حكمت على نفسك فكيف يحل لك أن تولي قاضياً على أمانتك وهو كذاب) . فإذا كان الاستقلال متحصلاً وتوافرت فـي الرئيس الأعلى الصفات المطلوبة وجب على من كانت له أهلية القضاء أن يجيب لذلك ، ولا يجوز له الرفض في حال دعوته لذلك(8). لذا نجد أن القضاة في صدر الإسلام وعهوده الأولى كانوا يتمتعون باستقلال في عملهم القضائي ويحكمون حتى على الخلفاء في خصوماتهم إذا كان الحق عليهم ويقفون في وجه السلاطين والامراء عندما يحاولون ان يسخروا القضاء لخدمة مصالحهم (9). ، ومن خلال ذلك ، ومن الحصانة التي يتمتع بها القاضي من تدخل ولي الأمر في عمله يطمئن الناس على حقوقهم فلا يخافون جور السلطان ولا بغي ذوي الجاه لأن القاضي سيعمل بالحق فيهم . ويناقش الفقه الإسلامي في مسألة أنه ، في بعض الحالات ، تجتمع السلطة القضائية والسلطة التنفيذية بيد الخليفة فكيف يتم ضمان استقلال القضاء ؟ وجواب ذلك أن الخليفة عندما يمارس العمل القضائي فإنه يخضع في أعماله لما يخضع له القضاة الآخرون من جهة ضوابط المرافعة ووسائل الإثبات وقواعد الحكم التي منها عدم جواز نظره لقضية هو فيها خصم ، مدعٍ أو مدعى عليه ، أو أن أحد خصومها ممن لا تجوز الشهادة له وغير ذلك من القواعد ، وأنه بناءً على المصالح المرسلة وسد الذرائع ، لا يجوز لرئيس الدولة القيام بوظيفة القضاء ، دفعاً للتهمة عن نفسه وخشية انحرافه(10). وإذا كان مبدأ استقلال القضاء أمراً مهماً وضرورياً في ظل نظم الحكم الاستبدادية ، التي استبد فيها الملوك والنبلاء ورجال الدين ، ممّا استوجب في فرنسا قيام الثورة الفرنسية وإقرار نظام الفصل بين السلطات لضمان الحريات الفردية وكذلك في ظل نظم الحكم الدستورية التي تنص دساتيرها على أن الملك غير مسؤول وأن ((ذاته مصونة لا تمس)) ، فانه رغم عدم وجود نظام الفصل بين السلطات على النحو الذي وجد في الديمقراطيات الغربية ، فان الشريعة الاسلامية تجعل السلطة القضائية سلطة تعلو فوق كل السلطات ، فهي فوق الخليفة أو الإمام أو رئيس الدولة أيا كان ، إذ نجد في ظل هذا النظام الإسلامي أهم ضمانة للحريات وهي أن الناس متساوون , والذي يساوي فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه بأي فرد، في القضاء والقصاص يقول عمر بن الخطاب (رض) [رأيت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقص من نفسه] (11). فقد ورد أنه [بينما رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقسم شيئاً ، إذ أكب عليه رجل ، فطعنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، بعرجون كان معه ، فجرح الرجل ، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تعال فاستقد ، قال : بل عفوت يا رسول الله] (12). ونجد ان الامام علياً ( عليه السلام ) في اثناء خلافته تخاصم مع يهودي امام القاضي شريح , فقام له شريح عندما دخل عليه الامام فاعترض عليه الامام وقال له ( هذا اول جورك ) , في قضية درع الامام المشهورة (13) . كذلك نجد أن عمر بن الخطاب ، مثل هو وخصمه أبي بن كعب أمام زيد بن ثابت ليقضي بينهما فيلقي زيد لعمر وسـادة فيقول له عمر (هذا أول جورك) . ويجعل عمر ابن المصري يقتص من ابن عمرو بن العاص والي مصر ويقول له : أضرب ابن الأكرمين(14). وهكذا نجد أن الشريعة الإسلامية كانت قد عرفت الفصل بين السـلطات من خلال الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية(15).
ثانياً : رقابة القضاء في الفقه الإسلامي
إذا كانت النتيجة التي توصلنا إليها هي أن القضاء مستقل في الشريعة الإسلامية لا سلطان عليه لغير الأحكام الشرعية إلاّ أن ذلك لا يمنع من أن تكون هناك رقابة على عمل القاضي وذلك للتثبت من حسن قضائه وأدائه واجبه على النحو الأفضل ولمّا كان القاضي هو وكيل رئيس الدولة في أداء عمل القضاء ومن حق الموكل أن يراقب وكيله في ما يقوم به من أعمال على الوجه المشروع ، فإن هذه الرقابة لا تعارض استقلال القاضي أو أداء واجبه"(16). وقد رأى الأمام علي عليه السلام أن واجب ولي الأمر إقامة العدل بين الرعية من خلال مراقبة أعمال القضاة وتصرفاتهم من حين لآخر ، مع اتصافهم بأوصاف القضاة الصالحين والفضلاء ، لأن محاسبة النفس والشعور بالمسؤولية قد يكون ضئيل الأثر في نفوس بعض المسؤولين فأراد عليه السلام أن يقويه ويعمقه في نفوس القضاة خاصة ، فعهد إلى عامله أن يكثر تعاهد قضائه – القاضي – أي تطلعه إلى أحكامه وأقضيته(17). ومن ثمّ فإنه [ ينبغي للإمام أن يتفقد أحوال القضاة فإنهم قوام أمره ورأس سلطانه ، وكذلك قاضي الجماعة ، فينبغي له أن يتفقد قضاته ونوابه ويتصفح أقضيتهم ويراعي أمورهم وسيرتهم في الناس وعلى الإمام والقاضي الجامع لأحكام القضاء أن يسأل الثقات عنهم] (18). كذلك يبدو أنه يجب عليه أن يراقب القضاة في سرعة إنجاز دعاواهم القضائية المعروضة عليهم وسرعة إيصال الحقوق إلى أصحابها لأن تأخير الفصل فيها يمثل مطلاً يوجب إثماً ويؤدي إلى ظلم صاحب الحق ، لأن عدم إيصال الحق له بسرعة أي في وقته ، وإن حصل عليه فيما بعد ، يمثل ظلماً وإخلالاً بالعدالة أو ما يسمى (عدالة ناقصة) ، وبذلك فإن [القاضي بتأخير الحكم يأثم ويعزر ويعزل] (19).
If the independence of the judiciary from the executive authority was not known in Western countries until the early nineteenth century, Islam preceded it (1). As ruling with justice is one of the duties of the head of state in Islam, he is responsible before God for his subjects and is also responsible before the nation or the people who have the right to hold him accountable (2). At the beginning of the emergence of the Islamic state in Medina during the era of the Messenger (may God bless him and his family and grant them peace), the judiciary was handled by the Prophet, may God bless him and grant him peace, personally among the people, or entrusted to some governors in their charge of administrative and political guardianship. The judiciary was not an independent system at first. Executive authority (3), and the situation continued like this during the time of Caliph Abu Bakr, and after the Islamic state expanded during the reign of Caliph Omar, the judiciary became independent from the governors, and the caliph became the one who assumed the judiciary, or the order to appoint them came from the governor when the caliph authorized him to assume the judiciary. Or the matter of their appointment is entrusted to someone who was called (the judge of judges) during the time of the Abbasid state (4). To cover the subject of the study, we will address it in two points: -
First: Independence is a right and a duty for the judge
Since the judiciary is a religion for which the judge is held accountable, he has the right to refuse to interfere in the affairs of his judicial work in order to avoid the wrath of God, as the Messenger of God (may God’s prayers and peace be upon him and his family) said: “The judges are three, one in Paradise and two in Hell. As for the one in Paradise, he is a man of knowledge.” And a man who knew the truth and ungrateful towards it is in Hell, and a man who ruled for people out of ignorance is in Hell.}}(5). The independence of the judge is his right, its source is Sharia. However, this right at its roots is a legal duty on the judge, and the evidence for it being a duty is that the judge cannot give up the independence of his judiciary. If it were a private right, he would be able to give it up like other personal rights, and if the guardian intervenes. There is disobedience in the work of a judge, and the rule in Islamic law is that there is no obedience to a created being if it disobeys the Creator, as stated in the hadith: “Hearing and obedience are required of a Muslim in what he likes and dislikes as long as he is not commanded to commit a disobedience. If he is commanded to commit a disobedience, then there is neither hearing nor obedience” (6). He quoted the Maliki jurist Ashhab as saying, “It is the judge’s duty to be contemptuous of the imams,” and he interpreted this as meaning to be contemptuous of their mediations and intercessions. If the judge cannot maintain his independence in ruling, he must resign from his job (7). Rather, if a person knows that he cannot enjoy independence in ruling, he must refrain from accepting the position of judge. We find, for example, the jurist Abu Hanifa when he refrained from accepting the position of judge from Al-Mansur Al-Abbasi despite the latter’s insistence on accepting it, as Abu Hanifa said to him: (Fear God. And do not share your trustworthiness with anyone except those who fear God. By God, I am not safe from contentment, so how can I be safe from anger, when I am not fit for that? So Al-Mansour shouted at him, saying: You lied, you are right. Abu Hanifa replied to him, saying: You have judged yourself, so how is it permissible for you to take charge? Judge of your honesty, and he is a liar. If independence is achieved and the supreme president possesses the required qualities, then the person who has the qualifications to judge must respond to that, and it is not permissible for him to refuse if called upon to do so (8). Therefore, we find that judges at the beginning of Islam and its early eras enjoyed independence in their judicial work, and they ruled even on the caliphs in their disputes if they were entitled to them, and they stood up to the sultans and princes when they tried to subject the judiciary to serve their interests (9). Through this, and from the immunity that the judge enjoys from the interference of the ruler in his work, people are reassured of their rights, so they do not fear the oppression of the Sultan or the oppression of people of prestige, because the judge will act according to what is right for them. Islamic jurisprudence discusses the issue that, in some cases, the judicial authority and the executive authority are combined in the hands of the Caliph, so how is the independence of the judiciary guaranteed? The answer to this is that when the Caliph practices judicial work, he is subject in his actions to what other judges are subject to in terms of pleading controls, means of proof, and ruling rules, including the impermissibility of him examining a case in which he is an opponent, plaintiff or defendant, or one of its opponents is among those for whom it is not permissible to testify and is not. This is one of the rules, and based on the stated interests and the blocking of pretexts, it is not permissible for the head of state to carry out the function of the judiciary, in order to ward off the accusation against himself and for fear of his deviation (10). If the principle of independence of the judiciary is important and necessary under authoritarian systems of government, in which kings, nobles, and clergy were tyrannical, which in France necessitated the establishment of the French Revolution and the adoption of a system of separation of powers to guarantee individual freedoms, as well as under constitutional systems of government whose constitutions stipulate that the king is not Responsible and that “it is inviolable and inviolable.” Despite the absence of a system of separation of powers as found in Western democracies, Islamic law makes the judicial authority an authority that rises above all authorities. It is above the caliph, the imam, or the head of state, whoever he may be. We find, under this Islamic system, the most important guarantee for freedoms, which is that people are equal, in which the Messenger of God (may God’s prayers and peace be upon him and his family) equals himself to any individual, in judgment and retaliation. Omar bin Al-Khattab (may God be pleased with him) says [I saw the Messenger of God, may God’s prayers and peace be upon him He cuts himself] (11). It was reported that [while the Messenger of God, may God’s prayers and peace be upon him, was dividing something, a man fell on him, and the Messenger of God (may God’s prayers and peace be upon him) stabbed him, with a cripple he had with him, so he injured the man, so the Messenger of God (may God’s prayers and peace be upon him) said to him: Come. So he went forward and said: Rather, you have forgiven me, O Messenger of God] (12). We find that during his caliphate, Imam Ali (peace be upon him) quarreled with a Jew in front of Judge Shurayh. Shurayh stood up for him when the Imam entered upon him, but the Imam objected to him and said to him (This is your first act of injustice), in the famous case of the Imam’s shield (13). We also find that Omar bin Al-Khattab and his opponent, Ubayy bin Ka’b, appeared before Zaid bin Thabit to judge between them, and Zaid threw a pillow to Omar, and Omar said to him (This is the first of your injustices). He makes Omar Ibn Al-Masry take revenge on Ibn Amr Ibn Al-Aas, the governor of Egypt, and says to him: Strike the son of the nobles (14). Thus, we find that Islamic law had known separation
___________________
- علي علي منصور , نظم الحكم والادارة في الشريعة الاسلامية والقوانين الوضعية , دار الفتح , بيروت , 1971 , ص 364 .
2- د. محمد عبد الجواد محمد ، المصدر السابق ، ص113 .
3- د. فاروق عمر . النظم الاسلامية , الصين 1983 , ص 125 ؛ و د. محمد سلام مدكور . القضاء في الاسلام , دار النهضة العربية , ص 23 .
4- علي الفنطاسي ، المصدر السابق ، ص786 .
5- مر تخريجه سابقاً .ص31.
6- العسقلاني ، فتح الباري ، ج13 ، ص121-122 .
7- د. عبد الكريم زيدان ، المصدر السابق ، ص73 .
8- باقر شريف ، المصدر السابق ، ص335 .
9- د . محمد فاروق النبهان . المدخل للتشريع الاسلامي , دار القلم , بيروت 1977 , ص 344 .
0- د. عبد الكريم زيدان ، المصدر السابق ، ص73-75 .
1- سنن النسائي ، ج8 ، ص31 .
2- سنن النسائي ، ج8 ، ص29 .
3- د . صبحي محمصاني . المجتهدون في القضاء , دار العلم للملايين , بيروت 1980 , ص 36 .
4- د. محمد عبد الجواد ، المصدر السابق ، ص116 .
5- د. صلاح الدين الناهي ، بحث عن حقوق الإنسان والضمانات القضائية ، مجلة القضاء ، عدد3-4 ، 1980 ،ص15 .
6- د. عبد الكريم زيدان ، المصدر السابق ، ص77 .
7- توفيق الفكيكي ، الراعي والرعية ، ص67.
8- ابن فرحون المالكي ، المصدر السابق ، ج1 ، ص77 .
9- ابن عابدين ، رد المحتار على الدر المختار ، ج5 ، 443